[ رآبعة العدويَـة ] ،
في "رابعة العدوية" تتجلي صفات الزهد و الورع و التقوى كلها، و لو كان لهذه المعاني قصة
و الصفات أن تتجسد في شخص إنسان لكان هذا الشخص هو "رابعة" – رحمها الله.
علم، زهد، ذكر، تواضع، خشية، حب، بكاء، بصيرة، تهجد و قيام. كم من الناس في أي زمان
أو مكان يمكن أن تجتمع فيه هذه الخصال كلها ممثلة في أجلي صورها و أعظم معانيها
كما تجسدت بحقيقتها في "رابعة أم الخير".
كانت نموذجاً فريداً للمرأة المسلمة الصالحة.. فكانت رأس العابدات، ورئيسة الخاشعات،
وزعيمة الناسكات حتى عُرفت في زمانها بعظيم فضلها ومزيد علمها وكمال أدبها.. كانت
تصلِّي مئات الركع في اليوم والليلة، وإذا سُئلت: ما تطلبين من هذا؟ قالت: لا أريد ثواباً بقدر
ما أريد إسعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول لإخوته من الأنبياء: انظروا هذه امرأة
من أمتي.. هذا عملها. وكانت أول من استعمل كلمة " الحب الإلهي" استعمالاً صريحاً فيما
تناجي به الله عز وجل وإقبالها عليه وإيثارها له سبحانه.
من هي :
هي "رابعة القيسية العدوية البصرية" سميت رابعة لأنها كانت الرابعة في الميلاد يسبقها ثلاثة، و سميت بالقيسية لأنها من بطن من بطون قبيلة قيس، و سميت بالعدوية لأن أسرتها من بنى عدوة، و سميت بالبصرية لأنها ولدت في البصرة و عاشت بها ردحاً من الزمن، ولُقِّبت بأم الخير لسعيها في أوجه الخير.
لقد كان لرابعة ثلاث أخوات بنات سبقنها إلي الحياة، و أبواها يشكوان قسوة الفقر و شدة الحياة. و هكذا نشأت رابعة بين أبوين فقيرين، يعيشان في كوخ بطرف من أطراف البصرة، و كان الناس يسمون هذا الكوخ "كوخ العابد" و ذلك لتقوى الوالد و إيمانه.
في هذه البيئة الإسلامية الصالحة وُلدت رابعة العدوية وحفظت القرآن الكريم وتدبَّرت آياته وقرأت الحديث وتدارسته وحافظت على الصلاة وهي في عمر الزهور. وعاشت طوال حياتها عذراء بتولاً برغم تقدم أفاضل الرجال لخطبتها لأنها انصرفت إلى الإيمان والتعبُّد ورأت فيه بديلاً عن الحياة مع الزوج والولد. وليس كما يحاول بعض المستشرقين تشويه سيرتها ووصمها بالانحراف والرذيلة.
كانت رابعة منذ صغرها فتاة لبيبة عاقلة ذكية، زاهدة عابدة متهجدة، و كانت كثيرة الهم و الحزن، طويلة التفكير و التأمل، منطوية علي نفسها قليلة الكلام عازفة عن لغط الحياة. لقد عنيت رابعة منذ صغرها بحفظ القرآن الكريم و ترتيله، و كلما حفظت سورة من السور أخذت تكررها و تعيدها في ترتيل و تجويد مع الخشوع و تدفق الدموع.
و ما لبث أن مات أبيها ثم لحقت به زوجته و بقيت رابعة يتيمة مع أخواتها البنات الثلاث و لم يتركوا الوالدان لبناتهما من أسباب الحياة و وسائل العيش سوى قارب ينقل الناس في نهر دجلة من شاطىء إلي شاطىء مقابل دراهم معدودة.
وصحيح أنها وقعت في الرِّق بعد وفاة والدها ووالدتها وما أصاب البصرة من قحط ومجاعة وتفرُّقها عن شقيقاتها الثلاث وهي ما زالت صغيرة، حتى انها بيعت بستة دراهم لرجل غليظ القلب قاسي المشاعر أذاقها العذاب ألواناً، وظلَّت تنتقل من هوان إلى هوان، غير ان هذا لم يطفئ ذلك القَبَس الإيماني في قلبها مصداقاً لقوله تعالى: "ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان وزيَّنه في قلوبكم" فكانت تهرب من شظف العيش وضيق الدنيا إلى سعة الإيمان ورحمة الله.
فكانت تناجي ربها باكية: إلهي.. أنا يتيمة معذَّبة أرسف في قيود الرِّق وسوف أتحمَّل كل ألم وأصبر عليه، ولكن عذاباً أشدّ من هذا العذاب يؤلم روحي ويفكِّك أوصال الصبر في نفسي، منشؤه ريب يدور في خَلَدي: هل أنت راضٍ عنِّي؟ تلك هي غايتي.
وكانت تؤدي عملها في بيت سيدها بما يرضي ضميرها وتؤدي فريضة ربِّها في إخلاص وتفانٍ حتى إذا استيقظ سيدها ذات ليلة سمعها تناجي وهي ساجدة فتقول: إلهي أنت تعلم أن قلبي يتمنَّى طاعتك، ونور عيني في خدمتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن مناجاتك.. لكنك تركتني تحت رحمة مخلوق قاسٍ من عبادك.
وبينما هو يراقبها، إذ يخطف انتباهه انبلاج ضوء حولها يفزع له فتعرف الرحمة طريقها إلى قلبه، وفي الصباح يدعوها: أي رابعة، وهبتك الحرية فإن شئت بقيت هنا ونحن جميعاً في خدمتك، وإن شئت رحلت أنَّى رغبت. فما كان منها إلا أن ودَّعته وارتحلت لتبدأ مرحلة جديدة. وهي المرحلة التي يحاول المستشرقون تشويهها والإساءة فيها إلى سيرتها، فقد احترفت مهنة العزف على الناي حيناً من الزمن، وهي مهنة لم تكن فيها شبهة، ولكنها سرعان ما اعتزلتها واعتزلت الناس جميعاً وبنت لنفسها خلوة انقطعت فيها للعبادة. وقد استوعب حب الله لذاته كل خلجات قلبها حتى قالت فيه لما سُئلت عن حبها للرسول الكريم: إني والله أحبه حباً شديداً ولكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين.
وأجملت نظرتها إلى هذا الحب الإلهي شعراً رقيقاً تقول فيه:
أحبك حبين حب الهوى فأما الذي هو حب الهوى
وأما الذي أنت أهل له فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
وحباً لأنك أهل لذاكا فشغلي بذكرك عمَّن سواكا
فكشفك للحجب حتى أراكا ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
مواقف :
كانت رابعة تخاف أكل الحرام، و قالت لأبيها: " يا أبت لست أجعلك في رحل من حرام تطعمنيه"، فقال لها متعجباُ: "أرأيت يا رابعة إن لم نجد إلا حراما؟"، قالت :" نصبر يا أبي في الدنيا علي الجوع، خير من أن نصبر في الآخرة علي النار".
و قد حدثت مجاعة و قحط في البصرة علي عهدها، فتشردت رابعة في الأرض و تشتت أخواتها و ذهبت كل واحدة منهن إلي جهة من الأرض، حيث لم تلتقي رابعة بواحدة منهن بعد ذلك....رآها لص أثيم فتربص لها حتى وجدها مشردة منفردة، فأخذها مدعياُ رقها و باعها إلي أحد التجار الذي أذاقها طعم البلاء، و سامها سوء العذاب. و ذات ليلة رآها التاجر و هي تتعبد في خشوع و إخلاص طالبة من الله أن يخلصها من قسوة ذلك التاجر الذي يذيقها الألم و المهانة حتى تتفرغ للعبادة و الطاعة، و يقال أن التاجر رأي فوق رأسها مصباحاُ مضيئاُ غير معلق بشيء فآمن بصلتها العميقة بربها، فأعتقها.
أتاها رجل بأربعين ديناراُ فقال لها: تستعينين بها علي بعض حوائجك، فبكت ثم رفعت رأسها إلي السماء فقالت: هو يعلم أني أستحي منه أن أسأله الدنيا و هو يملكها فكيف أريد أن أجدها ممن لا يملكها.
قال رجل يوماُ لرابعة: ادعي الله لي، فالتصقت بالحائط و قالت: من أنا يرحمك الله؟ أطع ربك و ادعه، فإنه يجيب دعوة المضطرين.
قال لها سفيان الثوري مرة: يا أم عمرو أرى حالاً رثة فلو أتيت جارك فلاناً لغير بعض ما أرى، فقالت يا سفيان "وما ترى من سوء حالي؟ ألست على الإسلام فهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه، والأنس الذي لا وحشة معه، والله إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها؟
وكانت رابعة إذا وثبت من مرقدها فزعة تقول "يا نفس إلى كم تنامين؟ وإلى كم تقومين، يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور".